لفائف البحر الميّت بين المسيحيّة واليهوديّة | أرشيف

صورة لمخطوطة من لفائف البحر الميّت

 

المصدر: «مجلّة العربيّ».

زمن النشر: 1 أيّار (مايو) 1986.

الكاتب: محمّد الأسعد.

 


 

في أحد أيّام شهر حزيران (يونيو) 1967، اتّجهت سيّارة مدنيّة تقلّ عددًا من الباحثين اليهود، إلى «المتحف الفلسطينيّ» في القدس. كان ذلك اليوم بالتحديد هو يوم 6 حزيران (يونيو)، أي اليوم التالي على بدء ما عُرِفَ بـ «حرب حزيران». وكانت مهمّة هؤلاء الباحثين، الاستيلاء على عدد كبير من اللفائف الجلديّة القديمة، ونقلها إلى داخل فلسطين المحتلّة. وبهذا العمل تكون سلطات الاحتلال الصهيونيّ قد وضعت يدها على الجزء الأكبر ممّا عُرِفَ باسم «لفائف البحر الميّت»، بعد أن سبق لها وضع اليد على بعض منها عن طريق الشراء في عام 1955.

أثارت هذه اللفائف منذ اكتشافها في العام 1947، مناقشات واسعة في أوساط علماء الآثار واللغات والأديان والتاريخ، وفي الأوساط الصحفيّة الغربيّة. ونُشِرَت عنها مئات البحوث والكتب باللغات الأوروبّيّة، والسبب يعود إلى أنّها تضمّنت أسفارًا من التوراة اليهوديّة بالعربيّة والآراميّة، كما أنّها تضمّنت تعاليم جماعة دينيّة عاشت على الشواطئ الشماليّة الغربيّة للبحر الميّت في فلسطين، واعتُبِرَت هذه النصوص أقدم ما وصل إلى أيدي الباحثين من نصوص التوراة بالدرجة الأولى، وسُلِّطَت الأضواء على هذه الزاوية دون غيرها.

 

أعظم المكتشفات

بدأت قصّة اكتشاف هذه اللفائف في عام 1947، في وقت كانت فيه الحركة الصهيونيّة تستكمل إقامة القاعدة البشريّة والاقتصاديّة والسياسيّة والجغرافيّة لدولة ’إسرائل‘، في فلسطين.

والرواية الأكثر تواترًا، هي أنّ فلسطينيّين من عشيرة ’التعامرة‘، عثروا في كهوف تقع إلى الشمال الغربيّ من البحر الميّت، على لفائف أسطوانيّة من الجلد، محفوظة في جرار فخّاريّة، ومكتوبة بلغة غريبة عليهم. ومن هؤلاء تسرّبت اللفائف إلى تاجر من بيت لحم، أوصلها بدوره إلى مطران «دير مارمرقص» للسريان الأرثذوكس في القدس، وقام الأخير بشرائها.

من جانب آخر، وصلت بعض اللفائف إلى الدكتورة سوكتيك، مدير «الجامعة العبريّة»، الّذي نَشِطَ لمعرفة المزيد عن هذه اللفائف وجمع ما أمكن جمعه منها.

وعُرِفَ في ما بعد أنّ لفائف المطران قد عُرِضَت للبيع في نيويورك، وأنّ الّذي اشتراها هو يغئال بادين، رئيس الأركان الإسرائيليّ، بمبلغ وقدره ربع مليون دولار، وذلك في العام 1955.

وهكذا تجمّعت الحصيلة الأولى من اللفائف المكتشفة في «الجامعة العبريّة». وحتّى آذار (مارس) عام 1948، لم يكن لدى «دائرة الآثار الفلسطينيّة»، في القدس، علم بهذه اللفائف، لأنّ أحد العاملين في هذه الدائرة، حين عرضها عليه المطران لأخذ رأيه في قيمتها، أخبره أنّ ليس لهذه اللفائف من قيمة، ولم يجد هذا الموظف أنّها تستحقّ أن تُذكر في تقرير يقدّمه إلى دائرته.

اهتمّ بعض الأمريكيّين العاملين في «معهد دراسات الشرق الأوسط» في القدس بهذه اللفائف، فسارعوا إلى تصويرها وبدأوا بدراستها، وأرسلوا نسخًا من الصور إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وهناك أعلن عالم الآثار أولبرايت أنّ هذه اللفائف من أعظم المكتشفات في العصور الحديثة، ممّا أثار الاهتمام المضاعف بالبحث والتنقيب. وواصل سكّان المنطقة التنقيب في كهوف البحر الميّت، وفي منطقة قريبة تسمّى «خربة قمران». وقامت السلطات الأردنيّة بعد الانتباه إلى الموضوع بسلسلة من الاكتشافات، تواصلت حتّى أوائل الستّينات، وكانت حصيلتها عددًا كبيرًا من اللفائف الجلديّة الممزّقة، ولفائف نحاسيّة مميّزة. وبدأت «دائرة الآثار الأردنيّة» بحصر المكتشفات وشرائها من مكتشفيها، حتّى تجمّعت لديها حصيلة ضخمة، جرى جمعها في صناديق، وتسجيلها بالوزن بعد أن تعذّر إحصاؤها، واستعانت الدائرة في ذلك بتبرّعات مادّيّة من عدّة جامعات غربيّة.

تعرّضت اللفائف أثناء ذلك إلى محاولات للاستيلاء عليها، وإرسالها إلى الجامعات الغربيّة. ولعب مدير «دائرة الآثار» الإنجليزيّ، لانكستر هاردنغ، دورًا في هذه المحاولات، إلّا أنّه بعد تعيين مدير عربيّ للدائرة أصبح هناك تشدّد في قضيّة اللفائف، وطالب بالحفاظ عليها، خاصّة أنّ معظمها اشتُرِيَ بأموال «المتحف الفلسطينيّ». وهكذا بقيت اللفائف في المتحف إلى أن جرى الاستيلاء عليها عقب «حرب حزيران» عام 1967.

 

نقض التاريخ التوارتيّ

تشير قراءة اللفائف إلى أنّها تتضمّن أسفارًا توراتيّة، أهمّها «سفر إشعيا»، وشرحًا لـ «سفر حقوق»، ونصوصًا لا علاقة لها بالتوارة مثل ما أُطْلِقَ عليه كتاب «النظام»، وكتاب «حرب أبناء النور والظلام»، وأجزاءًا من الأناجيل، وقطعة أدبيّة لبوربيدس، ورواية آراميّة عن الملك البابليّ نبونيدس، وعددًا من الوثائق الإخباريّة، والصكوك التجاريّة، وعقود الزواج.

واللغات المستعملة هي العبريّة، والآراميّة، واليونانيّة، والكنعانيّة، والعربيّة، وقد وُجِدَت هذه اللفائف في مناطق واسعة غربيّ البحر الميّت، وترجع تواريخها إلى عهود تاريخيّة مختلفة.

كان الهمّ الأوّل للباحثين هو تحديد تاريخ هذه اللفائف، اعتمادًا على الاختبارات الكيميائيّة للموادّ، وعلى الدراسات اللغويّة للخطوط، وعلى فحص المكتشفات الأثريّة لخربة قمران القريبة من مكان الكهوف. لم يتوصّل أحد إلى تحديد تاريخ متّفق عليه، وأقصى ما توصّلت إليه البحوث هو تحديد زمن كتابة اللفائف والمخلّفات الأثريّة، من جرار وأقمشة ومحابر، وُجِدَت في الخربة بحدود قرنين قبل ميلاد المسيح والقرن الأوّل الميلاديّ.

ومن ثمّ فقد تركّز البحث على ناحيتين؛ الأولى، مقارنة الأسفار التوراتيّة المكتشفة بنصوص التوراة المتأخّرة والمعتمدة. أمّا الثانية، فهي البحث في هويّة الجماعة الدينيّة الّتي دلّت آثار قمران على أنّها كانت تعيش في المنطقة.

قادت دراسة الأسفار التوراتيّة إلى الكشف عن اختلافات خطيرة بين نصّ اللفائف ونصوص التوراة المعتمدة؛ فهناك 13 قراءة مختلفة في «سفر إشعيا»، وخمسة قراءات مختلفة في «سفر حقوق»، بالإضافة إلى اختلافات في جذاذات تضمّ شيئًا من «سفر الجامعة» و«المزامير».

ومثال ذلك أنّه ورد في النصّ المعتمد «الخمرة غدّارة»، بينما هي في اللفائف «اليونانيّون غدّارون»، وورد في النصّ المعتمد "اشرب ولا تتطهّر"، بينما هي في اللفائف "اشرب وترنّح"، وحسب النصّ المعتمد، ورد في «سفر الجامعة» قول: "أبناء إسرائيل"، بينما "حسب جذاذة" من اللفائف وردت "حسب عدد أبناء الله".

ولاحظ بعض الباحثين أنّ النصّ المعتمد المسمّى بالنصّ «المسوّر»، والّذي يرجع تسويره إلى القرن السابع الميلاديّ، يخالف أيضًا ما يسمّى بالترجمة السبعينيّة للتوراة، وهي ترجمة يونانيّة جرت خلال القرن الثالث قبل الميلاد، وهي أكثر اتّفاقًا مع اللفائف.

 

بين المسيحيّة والصابئة

بالإضافة إلى ذلك، كشف النصّ الآراميّ لقصّة الملك البابليّ نبونيدس، أصل القصّة التوراتيّة عن مرض الملك البابليّ نبوخذنصّر، وأظهرت عدّة مكتشفات أثريّة تؤيّد النصّ الآراميّ، أنّ القصّة التوراتيّة كانت مختلفة، ولا أصل تاريخيّ لها. فقد نَسَبَت إلى نبوخذنصّر أحداثًا هي في حقيقتها ترجع إلى نبونيدس آخر ملوك بابل.

وقد أثار الباحث بول ديفيز في كتابه «لفائف البحر الميّت»، مسألة العلاقة بين هذه الطائفة وبين ظهور المسيحيّة، استنادًا إلى مقارنة بين كتاب «النظام» و«حرب أبناء النور والظلام»، وبين تعالم الأناجيل ورسائل الرسل، وتعالم يوحنّا المعمدان. ودار طويلًا حول موضوعه مثيرًا عددًا من الأسئلة حول لقب ’الناصريّ‘ الّذي أُطْلِقَ على المسيح، بعد أن أظهرت تحرّيّاته التاريخيّة عدم وجود مدينة الناصرة في القرن الأوّل الميلاديّ، أو القرن الّذي سبقه. كذلك أثار عددًا من الأسئلة عن منطقة البحر الميّت، الّتي عاش فيها يوحنّا المعمدان، والشبه بين تعاليمه وكتاب «النظام». وأخيرًا، توصّل إلى إثارة سؤال حول الجماعة الّتي خرج عليها المسيح، حين أعلن في ’معبدها‘ أنّه المنتظر، بعد أن لاحظ أنّ هذه الجماعة لا يمكن أن تكون من الفرق اليهوديّة المعروفة آنذاك، الّتي وقف منها المسيح موقفه المضادّ منذ البداية، وتعني "الفرّيسيّين... والصدّوقيّين".

إلّا أنّ من الملاحظ أنّ هذا الباحث، شأن الباحثين الآخرين، لم يستطع أن يخرج من الإطار الّذي زجّ فيه نفسه، وهو علاقة المسيحيّة باليهوديّة، دون الالتفات إلى ما فتحته هذه الأسئلة من آفاق، إلى نطاق آخر للبحث هو نطاق ’جماعة قمران‘، وعلاقتها بالصابئة المندائيّين. وكان من الممكن الإجابة عن كثير من الأسئلة عن هويّة هذه الجماعة، وعن منابع المسيحيّة وصلاتها العميقة بـ’الصابئة‘، لو أفلت الباحث من إطاره الضيّق واتّجاهه نحو إثبات نشوء الديانة المسيحيّة من العقيدة اليهوديّة.

ذلك لأنّ لفظة ’الناصريّ‘، لفظة متداولة، وهي بالآراميّة، لغة الصابئة الدينيّة، تعني رجل الدين الصابئيّ المندائيّ ناصروتا، وتُثْبِتُ كتب هذه الطائفة عدّة أمور ذات مغزى في بحث مسألة اللفائف وجماعة قمران؛ فهي تتحدّث عن شعيرة العماد الأساسيّة في نهر الأردنّ، وعن الإقامة هناك حتّى سبعينات القرن الأوّل الميلاديّ. ولا تتضمّن تعاليمها شبهًا بتعاليم يوحنّا المعمدان والمسيح فقط، بل إنّ يوحنّا المسمّى لديها ’يحيى بن زكريّا‘، هو نبيّها الّذي تتحدّث عن مقتله في دمشق، وتشبه الرواية الصابئيّة لسيرة حياته، ما ورد في في لفائف البحر الميّت في «كتاب حرب أبناء النور والظلام»، عن معلّم الحقّ الّذي تآمر عليه الكاهن الشرّير وسلّمه إلى السلطة ليُقتَلْ.

وفي اعتقادنا أنّ دراسة اللفائف ومجتمع قمران، في ضوء ديانة الصابئة، ومجتمعهم في فلسطين، وعلاقة اليهود العدائيّة بهم، إلى درجة هجرتهم من هناك إلى الشام، ومن ثمّ إلى العراق في القرن الأوّل الميلاديّ، هي الّتي يمكن أن تجيب عن أسئلة ديفيز الحائرة، وتُلقي ضوءًا على المنابع الأولى للمسيحيّة.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.